الرئيسية - قصص وروايات - لعشاق القصص والروايات
لعشاق القصص والروايات
الساعة 04:01 مساءً

متابعينا الكرام سيتم سرد القصة على شكل حلقات كل يوم حلقة


 قصة جعلتني ملتزماً الحلقة ١ 

اقراء ايضاً :


لم تكن نازلة كمثل النوازل التي يحتملها بشر، حين أتت بغتة تحمل بين طياتها  ذكريات حزن دفنته السنين، فتعيد نسخه لكن بنسختين، يتضاعف حجم الألم مرتين، هناك على نفس السرير كانت تنام والدتها في يوم من الأيام جسدا باردا، وهنا اليوم ينام الوالد جسما هامدا يأبى أن يكلمها ، لا تزال بعد لم تستوعب الصدمة بين جثة أب وجثة أخ متمددتين، أيها تضم! وأيهما تقبل ، وأيهما تودع، في ذلك المكان الشاحب شحوب الأنين. 

أبي هل تألمت؟ أبي أجبني هل شعرت بصدمة الحادث يا حبيبي؟ أبي هل تأذى جسمك الذي كان يضمني؟ أبي ويحي لمن تركتني؟ 
تنوء بحمل ثقل الألم الذي تداعى إلى العلن . تروح وتغدو بين أب وأخ خطفتهما المنية منها دون سابق إنذار لتظل  وحيدة في عالم لم تخض بعد غماره ولم تكتشف منه إلا قدر سنين عمرها الضئيل ، ستة عشرة عاما، لا تدري بعدهما من أي طرف ستمسك خيط الحياة.

 أخي الغالي ويا سندي من بعدك سيؤنسني ويحميني، ومن يلاعبني ويشاكسني ويبارزني فيغلبني ، أخي نم في هدوء ، دعني هنا أنوح، دعني أواسي جرح أمي بقبلة أخيرة منك وخذ إليها قبلة مني، خذ لها شوقي وحنيني  ....

بقدر حدة البكاء كانت حدة انكسار العم الواقف بزاوية الغرفة المظلمة، لم تكن لتوليه انتباهها بين عتمة ما تعيشه من لحظات عسيرة، تستسلم لدموع مقلتيها ودموع قلبها تشق لها باتجاه قلبه فيض عطف حضره لها الذي لا ينسى ولا تضيع عنده الودائع، لم تشعر إلا ويداه العريضتان تضمانها إلى صدره الواسع.. كفى صغيرتي إنا لله وإنا إليه راجعون، حينها فقط تستفيق على وقع مواساته حين اعتقدت أنها لم تعد تملك بالدنيا أحدا، وبين وحشة أنفاسها المحترقة وزخات كلماته الهادئة أسلمت أمرها لله: اللهم أنت حسبي ونعم الوكيل .

يطرق الباب مستأذنا ويلج الغرفة التي لا يزال يكتنفها الكثير من الأسى: ما بالك يا همس يا بنيتي أرى على وجهك العُبوس ؟ واليوم أحق بأن ترسم السعادة على محياك لوحتها البهية!

يدنو العم منها مطبطبا، فترفع ناظرها نحوه تبث حزنها بنبرة متلعثمة: لا يكاد شعوري يستدرك عٓدْوٓ الزمن، أيعقل أن رحيل أبي وأخي قد عدى الثلاث سنين! تمنيت لو كانا معي الآن ليشاركاني فرحتي. دخولي لكلية الطب، تصمت برهة ، ثم تتأوه مستأنفة تأملاتِها:  آه، كانت تلك أمنية أبي. 

- ألا يكفيك التفوق يا همس بمعدل تسع وتسعون بالمئة من غير الاستعانة بدروس إضافية!!يرد مواسيا. 
وترد هي شاكرة عطاءه ورأفته: لا تقل هذا يا عمي، يكفيني منك أن فتحت لي باب بيتك وباب قلبك وتحملت مصاريفي ومصاريف تعليمي.

يرد ابراهيم العم العطوف يبدي لابنته أخيه بعض العتاب: لن أقبل منك هذا الكلام، كيف وأنت ابنة الغالي يا غالية! وأعز من ابنتاي، والله أعلم بما يكنه القلب. 

يصمت حينا، كأنه يستدرك تبريرا ما، ويستطرد ناظرا إليها بلطف وابتسامة كئيبة توري خلفها عجزا واعتذارا: تعلمين يا بنيتي عسر الحال وكثرة المصاريف، كان رجائي أن أقدر على هدية بحجم هذا النجاح، لكن، ومد إليها في نفس الحين جوالا جديدا: خذي هذا الهاتف البسيط، مكافأة صغيرة بقدر استطاعتي واعذريني لو كان بيدي لوضعت الدنيا بين يديك.

اغرورقت عيناها دمعا، بينما ينتشلها العم الحنون من حزنها، ويكرمها رغم ضعفه وقلة حيلته، وبساطة دخله، يأبى إلا أن يعوضها غياب أهلها ويغدقها بالمزيد من السخاء.

 فتنهال الشابة الممتنة على يديه تلثمهما فتبللهما عبراتها المترامية بين أسى وشكر وعرفان: يعلم الله يا عمي أنك بالمكانة التي حظى بها أبي دوما، وهديتك أغلى ما يقدم أب لابنته، لن أملك أغلى منها.

كانت كلماتها الشجية بلسما أبرد حر عجزه، فأسكته الرضى وانصرف مبتسما مطمئن القلب.

لطالما أدركت اليتيمة أنها لم تحظ يوما بمحبة رهام ورنا، فهي التي احتلت غرفة من البيت واقتطعت شقا من فؤاد والديهما، و خطفت الكثير من إعجاب الأقارب بجمالها الفاتن وسماحة أخلاقها وتفوقها الدراسي. 

كذا زوجة عمها التي لم ترحب بوجودها يوما، وكم رشقتها بنظرات الاستنكار توحي لها غربتها كأنها شخص دخيل ملأ قلبها سخطا وبغضا.

لم يكن ليؤنسها غير نظرات عمها العطوفة بعضا من لحظات وجوده المختطفة من ساعات طويلة يقضيها بالعمل، حين يقابلها مبتسما على سفرة العشاء، وحين يغيب تغيب في غرفتها بين صفحات مصحفها ورسائل ربها بين سطور لا تمل ترديدها وكلمات تنزل على قلبها كالماء البارد بجوف عطشان، وبين الحين والآخر ترحل عبر سطور أناملها المترنحة كالطيور المسافرة تشق عنان الخيال تلتقط بعض أفكارها الشاردة فتقيدها على صفحات يومياتها .


في غمرة شرودها تلك يقاطعها ذلك الصوت المتهكم الذي ألفت زلزلته، تناديها فتحية زوجة العم: لديك اتصال على الأرضي يا نور عين أمك! أتنزلين أم نحمل لك الهاتف إلى الغرفة يا أستاذة!! 
اعتادت همس تلك النبرة ولم تكن لترد إلا بكلمات مختصرة: حاضر، سأنزل. 

ترفع السماعة سائلة: السلام عليكم، من معي؟ 
فتسمع صوت رفيقتها ياسمين: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، لمَ تقفلين جوالك

يا أستاذة!! تعلمين أنني أتجنب الاتصال بك على الخط الأرضي .

تضحك همس مستغربة، وترد: ما بال الجميع اليوم ينعتونني بالأستاذة !! بالله عليك هل شكلي شكل أستاذة!!
وتضيف مبررة: طيب يا بطتي، تعرفين بأن جوالي معطل، ولم أضع الخط بعد بالجوال الجديد الذي أهداني إياه عمي.

تدعوها ياسمين مقاطعة: حسنا حسنا فهمت، إذا اعلمي أنك سترافقينني إلى المقرءة، لقد سألت عنك المعلمة بالحلقة الماضية. 
ترد همس مستسلمة: حسنا يا ايسو، لك ذلك، سأراققك بإذن الله وسأتصل بك قبل ذلك.
 
تودعها الرفيقة الحميمة التي كانت سندها دوما وشطرها الثاني الذي يرافقها في جميع نجاحاتها حتى في تفوقها والتحاقها بكلية الطب، بل وصوت قلبها الذي يذكرها بالخير والصحبة الحسنة التي تدفعها نحو الثبات على دين الله: طيب حبيبتي، سأدلف عليك عند ذهابي، أستودعك الله.
وإياك يا غالية، تقفل السماعة عائدة إلى خلوتها.
 
 يتبع 

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص